هدوء في زمن الصخب.. تحية وداع للفقيد محمد منيب

بقلم: الحسين أيت باحسين 

أول ما تبادر إلى ذهني، حين بدأت أتصور معالم هذه الكلمة التأبينية، شيئان جمعاني مع المرحوم السي محمد منيب في السنوات الأخيرة؛ إضافة إلى تقاسم الانشغالات المتعلقة باللغة والثقافة والهوية والحضارة الأمازيغية، وانشغالات الحركة الأمازيغية عامة والجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي خاصة؛ هما:
– تبادل بعض الكتب المتعلقة بالقضية الأمازيغية في مختلف أبعادها وبتاريخ الأمازيغ عامة، والمغرب خاصة؛ وهي كتب عتيقة وناذرة؛
– مرافقته، كلما كنت في زيارة لمدينة أكادير، في نشاطه الرياضي الصباحي المتمثل في المشي على الأقدام من الحي، حيث يسكن، إلى شاطئ أكادير مرورا بـ”وادي الطيور”، حيث تنتظره طيور “الغرانيق”(ibis) التي كان يحمل إليها الوجبة المعتادة خلال أيام برنامجه الرياضي.

إن تلك “الكتب العتيقة”، وهذه “الغرانيق” ذكرتني ب “المُنَمْنَمات” التي اشتهرت بها المخطوطات الهندية والفارسية والبيزنطية والعثمانية وغيرها؛ نظرا لولعه بالأرشيفات المتعلقة بتاريخ الأمازيغ وبشمال إفريقيا عامة وبالمغرب خاصة؛ ونظرا للعرف الذي جمعه بطيور الغرانيق ب “وادي الطيور” بمدينة أكادير؛ وكم استمتعت بأفكاره وتمثلاته ومعلوماته الغنية عن هذه الطيور، كلما فاتحته في موضوع جنسها الذي يفضله عن “رخ حكايات ألف ليلة” وحتى عن “ئكيدر(نسر) الحكايات الأمازيغية”!

فما هي الهواجس الأساسية والجوهرية للمناضلين الأمازيغ: الراحلين منهم؟
لكل المناضلين الذين ساهموا بقيمة مضافة مّا، ونوعية، للأمازيغية لغة وثقافة وهوية؛ هاجس أساسي في انشغالاتهم الأكاديمية، أو النضالية، أو الثقافية، أو الفنية، أو التربوية.
وبالنسبة لبَعْضٍ مِمَّن خبرناهم في الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي منذ عقود؛ يمكن القول أنه:

إذا كان الهاجس الأساسي بالنسبة للفقيد علي صدقي أزايكو هو الاهتمام بالرؤية المستقبلية لثقافتنا وتاريخنا الوطني من أجل تحديث الأمازيغية ورفع الحيف عن الأمازيغ (2)؛

فإن الهاجس الأساسي بالنسبة للفقيد إبراهيم أخياط هو التدبير الاستراتيجي للممارسة الجمعوية الثقافية والفنية والتربوية، وتنويع أوراشها لإبراز التعدد والتنوع في ثقافتنا المغربية (3)؛

وإذا كان الهاجس الأساسي للأستاذ محمد شفيق، أطال الله في عمره، هو بناء الترافع من أجل رد الاعتبار للأمازيغية على أساس الاهتمام باللغة والثقافة والتاريخ (4)، ومن أجل تحبيب الأمازيغية للناطقين بها وغير الناطقين بها؛

فإن الهاجس الأساسي بالنسبة للفقيد محمد منيب كان هو تصحيح التاريخ الوطني الحديث وخاصة منه المرتبط بفترة الحماية، وخاصة بالظهير البربري كأكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر (5).

كما أن الهاجس الأساسي للفقيد الحسين الملكي، الذي غادرنا منذ خمسة أيام، هو ترسيخ القيمة الاعتبارية للمرأة في المجتمع المغربي من خلال “حق الكد والسعاية”؛ الشيء الذي تحقق حين أدمج المشرع المغربي في مدونة الأسرة ضمنيا هذا الحق. ولا ينبغي أن ننسى قيمة مضافة أخرى تتمثل في انشغاله لعقود بمشكلة أراضي الجماعات السلالية وبالانظمة القانونية لتدبير الأملاك الغابوية (6).

فأية قيم مضافة تميزت بها مسامات فقيدنا محمد منيب، بالنسبة للقضية الأمازيغية؟
لقد أصبح لديه اقتناع راسخ بأنه: “لا ينبغي النظر إلى الأصبع، حينما يشير الأصبع إلى القمر” (7)؛ إذ التوجه نحو تفكيك الآليات الجوهرية التي استهدفت النيل من الأمازيغ أخصر طريق لرد الاعتبار للأمازيغية والأمازيغ؛ وهي:

– الإلمام المتمكن بمعرفة مختلف جوانب القضية التي يتم الترافع عنها. وهنا لن أسرد عليكم تفاصيل ما تعرفونه عنه، فأثناء مجمل الجلسات معه في منزله (8)، يتم الاستفسار عن تلك التفاصيل. كما أن دراساته وتكوينه ومهنته وعلاقاته الاجتماعية أهلته لأن يعرف، عن قرب، إدارة الحماية، وملابسات الحركة الوطنية، وخفايا المطالبة بالاستقلال، وكذا تطور الشأن الحزبي المغربي بشكل خاص، والشأن السياسي المغربي بشكل عام؛ وأن يواكب، في مرحلة أولى، الحركة الأمازيغية؛ لينخرط، برزانة وحكمة فكريا ونضاليا وتنظيميا، في مشاركتها المستدامة في مرحلة ثانية.
– كابن أكادير وما ساهم به من موقعه المهني، من أجل جعل المدينة تواكب تطورات العصر، فإن أهل أكادير أدرى بشعابها؛ ربما، باستثناء ما يرتبط به مع شعبة وادي الطيور بأكادير، حيث كانت له مواعيد مضبوطة خلال كل أسبوع مع طيور الغرانيق (ibis) نظرا لما ترمز إليه تلك الطيوربيئيا وثقافيا (9)، تلك الطيور التي كانت تجتمع قرب السياج الحديدي، وتطل من ورائه ومن خلاله في المواعيد المعهودة لتتلقى ما كان يغدقه عليها من وجبة، صباح كل يوم يمر بإزاء مسكنها، لممارسة المشي في شاطئ “تاوادا”.
– تقويض دعائم وأسس ما سمي ب “الظهير البربري”؛ دعائم أيديولوجية، بل وديماغوجية، من خلال كتابه: الظهير البربري أكبر أكذوبة في تاريخ المغرب المعاصر (2002). فالأسس الأيديولوجية والديماغوجية، هنا، تتمثل في كون تسمية “ظهير 16 ماي 1930 المتعلق بالمحاكم العرفية” تحولت، بخطة مخططين، إلى تسمية:”الظهير البربري”؛ إضافة إلى ما لحق ذلك من نعوت وأوصاف ألصقت بالأمازيغ؛ رغم “براءتهم من ذلك، براءة الذئب من دم يوسف”؛ ويمكن الاكتفاء بالاتهامات التالية: الانفصال، التخوين، العنصرية، التنصير، الإدماج، حفدة ليوطي، الفرنسة (التي تذكرنا بالرومنة)…، وقد عبروا عن ذلك ب (“فصل الأكثرية العظمى (أي الأمازيغ) من الشعب المغربي عن العرب” (10).
– التساؤل؛ كما ورد في مقاله المشهور: “من هم أحفاد ليوطي الحقيقيون؟” (2006) عن: “ماذا استفاد الأمازيغ من فترة الاحتلال بعد معاناتهم على مدى ربع قرن تقريبا، من 1912 حتى 1934، من ويلات السياسة البربرية بمعناها الهمجي الذي مارستها فرنسا ضد القبائل الأمازيغية المجاهدة بكل من الأطلس الكبير والمتوسط والصغير والريف، مستعملة في معاركها العسكرية كل وسائل التقتيل والتخريب والتشريد والتهجير؟ هذه الفترة التي اغتنمها العملاء لإنماء ثروتهم وتقوية نفوذهم وتثقيف أبنائهم حتى أن سلطات الحماية كانت تنعتهم بمفخرة سياسة ليوطي التعليمية”.
– الترافع من أجل تنقية الكتاب المدرسي من كل ما يتعلق بأطروحة الظهير البربري. والدعوة، إلى أن “يكون الكتاب المدرسي نبراسا للموضوعية والأمانة العلمية واحترام الحقائق التاريخية”؛ كما جاء ذلك في كتاب: الظهير البربري في الكتاب المدرسي (2010).

هدوء في زمن الصخب:

والآن، بعد فراقه لنا؟ لم يبق لنا أن نصفه إلا ب: “هدوء في زمن الصخب”ونخاطب روحه بما يلي من الأوصاف ترحما على روحه الطاهرة :
– أتيت بهدوء وانصرفت في هدوء؛ في زمن الصخب المتعدد الأوجه والأقنعة !
– كانت لقاءاتك المعتادة مع الغرانيق بوادي الطيور يسودها الهدوء !
– جعلت منزلك دار ندوة تتم فيها الاستشارات والنقاشات وتبادل الآراء بهدوء !
– زاوجت بين العمل الإداري الرسمي والممارسة النضالية الجمعوية في هدوء !
– دعمت من موقعك الإداري الرسمي حقوق مختلف النخب المحلية في هدوء !
– قدمت للحركة الأمازيغية كل ما تستطيعه من دعم مادي وإداري ومعنوي في هدوء !
– رافعت ضد “أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر” بهدوء !
– لازمت دعم الطلبة ماديا وثقافيا في مختلف منعرجاتهم في هدوء !
– صارحت، وبكل هدوء، من استشارك من حاملي أحزاب سياسية، بما تراه أساسا مثينا لنجاحها !
– استطعت أن تناضل مع كل أطياف الحركة الثقافية الأمازيغية ومع كل منابر الحركة الجمعوية الأمازيغية في هدوء !
فنم قرير العين أيها الكريم الحكيم !

أفرا ف ئمان نّك !
تيزّيضرا ئي تاوجا نّك !
تيرّوكزا ئي تاسوتين ن ئمال !
تودرت ئي تمازيغت!
تومرت ئي يّيمازيغن !

الحسين أيت باحسين
من أصدقاء الفقيد محمد منيب

الهوامش:

1- علما أن “المُنَمْنَمَة”، لغويا، هي “صورة مزخرفة في مخطوط”.
2- يمكن العودة إلى مقاله المشهور والمعنوان ب: “في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية”، والذي نشر صيغته الأولى في سنة 1976 بمجلة داخلية: “تيدرين”؛ ونشر صيغته الثانية والنهائية سنة 1981 في العدد الأول لمجلة “أمازيغ” بالعربية. كما يمكن العودة إلى كتابه: الإسلام والأمازيغ؛ ودور الإبداع الأدبي: وإلى ديوانيه: تيميتار (العلامات) وإزمولن (الجروح) في مجال الإبداع الأدبي وتحديثه؛ وإلى ما أمد به فرقة أوسمان والفنان والمغني عموري امبارك من قصائد شعرية في مجال الإبداع الفني.
3- للاطلاع على بعض جوانب هذا التدبير الاستراتيجي يمكن العودة إلى كتابه: النهضة الأمازيغية كما عشت ميلادها وتطورها.
4- يمكن العودة إلى كتابه ما يقوله المؤذن (1974)، وهو باللغة الفرنسية؛ وكتابه: أفكار متخلفة (1972)، وهو باللغة الفرنسية؛ وكتابه: لمحة عن ثلاثة وثلاثين قرنا من تاريخ الأمازيغيين (1989)؛ وإلى كتابه: المعجم العربي الأمازيغي، 3 مجلدات، (1990) و(1993) و(2000) وهو من إصدارات أكاديمية المملكة المغربية؛ وإلى كتابه: أربعة وأربعون درسا في اللغة الأمازيغية (1991)؛ وإلى كتابه: الدارجة المغربية، مجال توارد بين الأمازيغية والعربية (1999)، وهو من إصدارات أكاديمية المملكة المغربية، وفيه عرض للعلاقات والأواصر اللغوية التي تجمع بين اللغة الأمازيغية والدارجة المغربية؛ وإلى كتابه: الأمازيغية: بنيتها اللسانية؛ وإلى كتابه: حفريات في اللغة قد تفيد المؤرخ.
5- يمكن العودة إلى كتابه: الظهير البربري أكبر أكذوبة سياسية في المغرب المعاصر؛ (2002)؛ وإلى مقاله: “من هم أحفاد ليوطي الحقيقيون؟” (2006)؛ وإلى كتابه: الظهير البربري في الكتاب المدرسي (2010).
6- يمكن العودة إلى كتابيه: الكد والسعاية (في جزئين)؛ وإلى كتابه: أراضي الجماعات السلالية وجماعات القبائل بين الأنظمة القانونية والأحكام العرفية”.
7- الإشارة إلى صيغة المثل الصيني: بصدد الجواب عن السؤال: “من هو البليد؟”: “البليد هو الذي ينظر إلى الأصبع، حين يشير الأصبع إلى القمر” !
8- محج المناضلين والمثقفين والسياسيين والطلبة، من مختلف الآفاق.
9- من بين الجوانب الثقافية المتعلقة بطيور “الغرانيق” في الثقافة العربية – الإسلامية ما تشير إليه القصة التالية، من خلال الرابط التالي:
https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%82%D8%B5%D8%A9_%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A7%D9%86%D9%8A%D9%82
ويمكن العودة أيضا إلى تمثل هذا الطير في ثقافة الحضارة المصرية القديمة من خلال الرابط التالي (بالإنجليزية):
https://janetthomas.wordpress.com/2013/03/06/the-role-of-the-sacred-ibis-in-ancient-egypt/
10- لنلاحظ أن الأمازيغ، هنا، ليسوا أقلية، كما يعتبرون اليوم حين يتم الحديث عن نسبة الأمازيغ في المغرب؛ علما أن هناك فرق شاسع بين “أقلية” بمعنى: minorité وبمعنى: minorisée).

شاهد أيضاً

لمحات من تاريخنا المعاصر.. التعريب الإيديولوجي في المغرب

بدأت بوادر التعريب الإيديولوجي في المغرب منذ الثلاثينات من القرن الماضي اي بعد أن قضى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *