جذور تنافر الحركة الأمازيغية والأحزاب السياسية في المغرب

رشيد الحاحي
رشيد الحاحي

كثيرا ما يثار السؤال حول علاقة الحركة الأمازيغية خصوصا خلال مرحلة النشأة، أي في سنوات السبعينيات والثمانينات وكذا التسعينيات، بالقطبية السياسية الحزبية التي عرفها هذا السياق المتوتر والشائك في تاريخ المغرب المعاصر، أي بمنظمات وأحزاب اليسار وبالأحزاب التي كانت تصنف في خانة اليمين، وقد أثار من جديد وفاة السيد عبد الرحمن اليوسفي قبل أيام، أحد أبرز مناضلي اليسار المغربي الذي تولى أيضا مسؤولية رأسة الحكومة التي تسمى في الأدبيات السياسية المغربية بحكومة التناوب التوافقي سنة 1998، أهمية هذا السؤال باعتباره من الأسئلة التي ظلت غامضة في الحياة السياسية المغربية، مما يتطلب بعض الإضاءات باستحضار الوضع الراهن وتحولات الخطاب والممارسة السياسية خلال حوالي عشرين سنة الأخيرة اتجاه المطالب الأمازيغية وقضايا اللغات والثقافة بشكل عام. كما يتطلب البحث الموضوعي في أبعاد هذه العلاقة استحضار طبيعة نشأة الحركة الأمازيغية ومطالبها وخطابها، وخصائص السياقات السياسية التي طبعت علاقة أحزاب اليسار بالدولة وبالمؤسسة الملكية بشكل خاص، وببقية مكونات المشهد الحزبي المرتبطة بصراعات المرحلة وتداعياتها المجتمعية والثقافية.

لا شك في أن علاقة الحركة الأمازيغية الناشئة التي رفعت في بدايتها المطالب اللغوية والثقافية، بالأحزاب السياسية، كانت علاقة جد ملتبسة يطبعها الكثير من التوجس والحذر الذي وصل أحيانا إلى مستوى التنافر والرفض في سياق سياسي متوتر، أي خلال السبعينيات والثمانيات بالخصوص، الذي عرف هيمنة الخطاب القومي العربي ونماذجه الشرق أوسطية، كما شهد أوج الصراع السياسي في المغرب خلال السنوات التي سميت بسنوات الرصاص، وما ترتب عن ذلك من أحكام وتصنيفات متأثرة بصراعات المرحلة وقضاياها البارزة التي كانت ذات طبيعة سياسية بالدرجة الأول، أهمها الصراع حول الحكم وطبيعة النظام السياسي وقضايا الديمقراطية والحقوق السياسية.

فرغم أن العديد من الفاعلين اليساريين خلال هذه المرحلة كانوا ذوي أصول أمازيغية، إلا أن علاقتهم وتنظيماتهم السياسية مع خطاب ومطالب وفاعلي الحركة الأمازيغية الناشئة كان يطبعها الكثير من التوجس والتشكيك والتبخيس بل أحيانا الرفض والتهمة بالعرقية والقبلية وباللاجماهيرية والسعي إلى تشتيت جهود المعارضة والتفرقة وإلهاء المغاربة عن مشاكلهم الحقيقية التي كانت تختزل في الصراع السياسي وبناء الدولة الوطنية وفق النماذج الملهمة في ذلك السياق.

وكان من أسباب هذا التنافر وعدم استساغة العديد من تنظيمات اليسار المعارض للمطالب والحقوق اللغوية والثقافية الأمازيغية، وبروز حركة تتبناها وتدافع عنها، طبيعة السياق السياسي خلال وبعد مرحلة الحماية، بما في ذلك توظيف ظهير 16 ماي 1930 لصك اتهام اللاوطنية اتجاه المطالب الأمازيغية واعلان الانتماء الأمازيغي، ولو اللسني أو القبلي، والسعي لبناء دولة وطنية قومية تستلهم نماذج الأنظمة العربية والحركات التحررية التي كانت مؤثرة في النضال السياسي في جل دول العالم الثالث وفي المغرب بشكل خاص، خاصة بتوظيف أدبيات الفكر الماركسي في تحديد طبيعة الصراع وأولويات الشعوب، بما بذلك مفهوم البنية الفوقية والبنية التحية، ثم سيادة الفكر القومي العربي الوحدوي الذي كان يؤطر تصور اليسار لمشاريع النهضة ووحدة الأمة من المحيط إلى الخليج، خاصة مع بروز الناصرية والصراع العربي الإسرائيلي وانتكاسة 1967، وما صاحب ذلك من شيوع نماذج وقضايا قومية أطرت النخب الفكرية والثقافية والإبداعية ودعمتها ماديا ومعنويا في استلهامها للقضايا الوحدوية على حساب الانتماءات القطرية، وما ترتب عن ذلك من التعاطي المتوجس والرافض للقضايا والمطالب اللغوية والثقافية المحلية التي كان ينظر إليها بازدراء سياسي.

تتضح أشكال هذا التنافر وجدوره في المغرب، من خلال نوعية الصراع الذي نشأ بين حزب الاستقلال بعد مرحلة الحماية والقصر، ثم بين حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وحزب الاتحاد الاشتراكي، ثم منظمة العمل الديمقراطي الشعبي لاحقا، انطلاقا من شرعيتها كامتداد للحركة الوطنية، وبين جزء من جيش التحرير الذي كان يتزعمه مقاومون أمازيغ، الدين رفضوا الانضمام لحزب الاستقلال، ثم الصراع مع حزب الحركة الشعبية الذي تأسس سنة 1959 وسعى إلى تمثيل البوادي وخاصة أمازيغ الجبال والمناطق النائية، في إطار سعي القصر إلى نوع من التوازن السياسي والخوف من هيمنة الحزب الواحد. ينضاف كذلك انسحاب مجموعة من التجار والمقاومين ذوي الأصول الأمازيغية من حزب الاستقلال ثم من حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية فيما بعد، ومنهم أحمد أولحاج أخنوش والناجم أباعقيل وعبد الله الصنهاجي، وتأسيس الحزب الحر التقدمي وحزب العمل سنة 1974،.مما جعل جل التنظيمات اليسارية تنظر إلى الأمازيغ غير المنتمين إليها ثم فيما بعد إلى نشأة الحركة الأمازيغية وبداية إعلان مطالبها خلال السبعينيات والثمانينيات كمنافس وخصم مفترض، أو كامتداد وصدى لحزب الحركة الشعبية وحيثيات نشوئه السياسي.

ورغم أن العديد من الفاعلين والباحثين الأوائل واللاحقين الذين ساهموا في تأسيس الحركة الأمازيغية وانخرطوا في النضال الثقافي الأمازيغي مند السبعينيات، كانوا ينتمون إلى تنظيمات اليسار، أو قريبين منها، خاصة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب التحرر والاشتراكية وأيضا منظمة إلى الأمام، فإنه بالنسبة لقيادات ونخب وجل مناضلي هذه التنظيمات كانت تنظر إلى الجمعيات الأمازيغية والفاعلين في حقل الحقوق اللغوية والثقافية كرجع صدى لحزب الحركة الشعبية وحزب العمل بدرجة أقل. ومن أسباب ذلك، إضافة إلى تأسيس الحزب الحر التقدمي وحزب العمل، أن بعض الفاعلين الأمازيغ الأوائل ومنهم محمد شفيق وعبد الحميد الزموري كانوا ينتمون لمنطقة الأطلس المتوسط التي تعتبر مجال “البربريزم” وخريجي ثانوية أزرو البربرية، كما كانت تسمى في أدبيات منظمات اليسار والاستقلال، ومجال نفوذ حزب المحجوب أحرضان الذي كان يوظف اللغة الأمازيغية وأصوله القروية في حملاته الحزبية والانتخابية، رغم أن أدبيات الحزب ومشاركته في الحكومات المتوالية لم تكن تعكس ذلك، وإن كان استطاع عدة مرات أن يتحدث بالأمازيغية وعنها في مجالس وزراء الملك الحسن الثاني، كما حكى لنا المرحوم محمد منيب العارف الجيد بخبايا الحياة السياسية في المغرب المعاصر.

كما أن أوزين أحرضان بادر إلى اصدار أول مجلة تحمل اسم “أمازيغ” التي كانت تصدر بالفرنسية، وفسحت المجال لأول الأقلام الأمازيغية للتعبير عن تصوراتها ومطالبها، وفي عددها الأول الصادر بالعربية سنة 1981 نشر المقال “في سبيل مفهوم حقيقي لثقافتنا الوطنية” الذي حوكم على إثره صدقي أزايكو بسنة سجن نافذ، كما منعت المجلة من الصدور.

على ذكر اعتقال صدقي أزايكو، الذي كان يعمل حينها أستاذا للتاريخ بكلية الآداب بالرباط، فقد حكى لي أحد الأساتذة العاملين في نفس الكلية وهو باحث وفاعل أمازيغي أيضا، أنه عانى الأمرين في اجتماع لنقابة الأساتذة بذات الكلية خلال اعتقال صدقي أزيكو، لتضمين موقف وعبارة التضامن مع زميلهم في بيانها مما لقى معارضة شديدة من مناضلي اليسار الحزبي وترويجهم تهمة الخيانة في حق من يطالب بذلك.

كما يحضرني حوار للأستاذ المرحوم صدقي أزايكو نشر بعد إحداث المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية وخلال أواخر الحكومة التي ترأسها المرحوم عبد الرحمن اليوسفي، نفى خلاله انتمائه لحزب الحركة الشعبية كما كان يروج في صفوف منظمات اليسار، وذلك في سياق طبيعة المرحلة السياسية لنهاية التسعينيات وبداية الاعتراف الرسمي والاستجابة للمطالب الأمازيغية خلال خطاب العرش سنة 2000 وخطاب أجدير الذي أعلن فيه تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية.

ورغم الدور الذي قامت به الجامعة الصيفية باكادير مند أولى دوراتها سنة 1981 في فتح الحوار وتقريب مطالب وخطاب الحركة الأمازيغية من النخبة الثقافية والسياسية لأحزاب اليسار التي كانت متوجسة وبعضها رافضة لهذه الحركية الثقافية، وكذا الجمعية المغربية للبحث والتبادل الثقافي ومنظمة تماينوت وجمعية إلماس بالناظور وجمعية اغريس بكلميمة وجمعية سوس بالدارالبيضاء، خاصة بعد صدور ميثاق أكادير سنة 1991 الذي يمثل إعلان ميلاد الحركة الثقافية السياسية الأمازيغية، فإن الوقائع اللاحقة وتحولات السياقات لم تنل كثيرا من هذا النفور والخوف من الأمازيغية، بل أججتهما. ويمكن التوقف عند أحداث كلميمة التي أعتقل خلالها مناضلي جمعية تليلي سنة 1994 بسبب رفعهم خلال تظاهرات فاتح ماي لمطالب الحركة الأمازيغية عبر لافتات مكتوبة بحرف تفيناغ، لحظة هامة في رصد علاقة تنظيمات اليسار وبقية الأحزاب السياسية مع الحركة الأمازيغية، حيث رغم أن السياق كان مختلفا وكون أحزاب اليسار خاصة الاتحاد الاشتراكي عرفت أوج شعبيتها خلال هذه المرحلة، فإن تعاطيها التبخيسي والتهويلي مع اعتقالات تليلي ومطالبها الديمقراطية أكد عمق الشرخ الإيديولوجي والسياسي بين اليسار والأمازيغية، كما تأكد ذلك من خلال الافتتاحية الشهيرة لجريدة الاتحاد الاشتراكي حينها التي كانت مضللة وتستعدي الدولة ضد الحركة الأمازيغية وتنبهها إلى تبعات الترخيص لجمعيات تدافع عن الأمازيغية.

كل هذه الأحداث ساهمت بشكل بارز في تعميق الهوة والتنافر بين الحركة الأمازيغية والأحزاب السياسية بالمغرب. ومند ذلك التاريخ إلى اليوم، جرت الكثير من المياه تحت الجسر، وتغيرت أشياء وبقية أخرى راسخة وعالقة في علاقة الحركة الأمازيغية بالأحزاب السياسية في المغرب، في انتظار تطورات الحياة السياسية وتقدم الإطارات الأمازيغية في إرساء مطالبها ومقتضيات دستور 2011 في الحياة العامة الوطنية…

شاهد أيضاً

الإعلام الأمازيغي المكتوب إلى متى يبقى نضاليا ؟

من الجبهات النضالية التي اخترتها الحركة الأمازيغية بالمغرب منذ النشاة، الإعلام المكتوب وذلك لأهميته في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *