أزمة الريف.. مسؤولية من؟

لا يكاد يمر يوم، منذ أن اعتقل نشطاء الحراك بالريف، دون أن نسمع من هذه الجهة أو تلك، من هذا المسؤول أو ذاك، أن هؤلاء المعتقلين بريئون من التهم الموجهة إليهم، وأن أي حلّ لأزمة الريف لا بد أن يبدأ من إطلاق سراح المعتقلين والتفاوض مع قادتهم. لقد صرح أعلى سلطة في البلاد (وهو ليس الشعب طبعا) على لسان الرئيس الفرنسي ماكرون، وهي سابقة في تاريخ الدبلوماسية أن يتحدث رئيس دولة ذات سيادة مكان رئيس دولة ذات سيادة، في زيارته الأسبوع الماضي للمغرب بأنه “قلِقٌ مما يحدث في الريف” وأن “الاحتجاج ظاهرة صحية”. كما صرح زعماء الأغلبية جميعهم بكون مطالب الحراك مشروعة، وأنهم فقط لا “يملكون عصا سحرية للاستجابة لها”.
لا يترك رئيس الحكومة السابقة من جانبه أي مناسبة تمر دون أن يذكرنا بأن تعامل الحكومة، التي يترأسها حزبه، مع حراك الريف قد افتقد إلى الروية، وأن تغليب أسلوب القمع والاعتقال بدل الحوار من شأنه أن يعقّد الأزمة بدل حلّها. بل ذهب أبعد من ذلك حينما اقترح نفسه “المنقذ من الضلال”، قبل أن يدرك أن حراك الريف أعظم من وساطته فيتوارى عن الأضواء.
عقدت المعارضة من جانبها مناظرة وطنية، حشدت لها كل الأطراف وكل الهويات، بمن فيهم أفراد عائلات المعتقلين، أقرّت خلالها بمشروعية المطالب وحق الساكنة في الاحتجاج السلمي، وخرجت بتوصيات على رأسها إطلاق سراح المعتقلين.
تعاظم حراك الريف، خاصة بعد اعتقال قادته، جعله ينتقل من اللقاءات المغلقة والتصريحات الصحفية لهذا الطرف أو ذاك إلى قبة البرلمان، وسيتسارع الكثير من النواب إلى إثارته منددين بأسلوب القمع الذي نهجته الأجهزة البوليسية في التعامل مع المحتجين بالريف، ومطالبين بالإفراج الفوري عن المعتقلين وعلى رأسهم قادة الحراك.
ستتشكل في خضم هذا النقاش وهذه التصريحات لجنة حقوقية لتقصّي الحقائق بالريف، وستخرج بعد زيارتها للمنطقة والمعتقلين بمجموعة من التوصيات، أهمها إطلاق سراح المعتقلين، رفع العسكرة عن المنطقة، فتح تحقيق قضائي في الانتهاكات التي مسّت الساكنة بالريف وفي أساليب التعنيف التي طالت المعتقلين، واعتذار رسمي للدولة كجزء من الحلّ.
انخرط المثقفون المغاربة بدورهم في هذا الحراك، سواء بالكتابة على صفحات الجرائد أو في إطار ندوات فكرية تسلط الضوء على ما يحدث بالريف. واصطفوا جميعا، إلا من رحم ربك، وراء المعتقلين وذويهم، مطالبين بإطلاق سراحهم والاستجابة لمطالبهم.
لن يقتصر التعامل مع حراك الريف على التصريحات والتنديد بالاعتقالات في الفضاءات المغلقة، بل سيخرج المغاربة في أشكال احتجاجية يومية في مختلف المدن المغربية، رغم القمع وتسخير البلطجية، لنسف الاحتجاجات وعدم السماح لحراك الريف بأن يمتد وأن “يتمغرب” بعد أن أرادوه انفصاليا لولا يقظة نشطاء الحراك، مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين ومحاسبة المفسدين. سيتوج هذا الخروج بأعظم مسيرة في تاريخ المغرب يوم 11 يونيو 2017 بالعاصمة الرباط.
لن تُقصّر جاليتنا بالخارج من جهودها في التعريف بالحراك دوليا والتنديد بالاعتقالات العشوائية التي تطال المحتجين بالريف سواء بمراسلة الهيئات الدولية المسؤولة عن انتهاكات حقوق اللإنسان، أو بمسيرات ووقفات أمام المؤسسات الدولية والقنصليات المغربية للضغط على المسؤولين المغاربة لإطلاق سراح المعتقلين.
وإذا اتفقت كل هذه الجهات وكل هذه الأطراف، الحكومية منها وغير الحكومية، على مشروعية الاحتجاج ومطالب المحتجين، وطالب الجميع بإطلاق سراح المعتقلين، فمن المسؤول عن اعتقالهم؟ يُحمّل أغلب من يتحدث عن الحراك والمعتقلين، بمن فيهم أعضاء الحكومة، المسؤولية للدولة؟ ترى ما/من هي الدولة بالمغرب؟
يتذكر كل مواطن (من التوطين كإقامة وليس المواطنة كحقوق) مغربي مهتم بالشأن السياسي للبلد استغاثة رئيس الحكومة السابقة عبد الإله بنكيران بالدولة حينما فاجأه المعطلون بالاحتجاج ذات لقاء. فماذا كان يقصد رئيس الحكومة بالدولة؟
كان يقصد بدون شك الأجهزة الأمنية. وإذا افترضنا أن هذه الأجهزة تشتغل في إطار مؤسسات وفقا لما يقتضيه القانون، فلا بد أن تكون هذه الأجهزة تحت وصية وزارة تابعة لرئاسة الحكومة. غير أن هذه الأجهزة هي التي منعت رئيس الحكومة في وقت سابق من عقد لقاء تواصلي مع شبيبة حزبه بمدينة طنجة. هذه الأجهزة التي استغاث بها رئيس الحكومة وهي التي منعته من عقد لقاء تواصلي هي نفسها الأجهزة التي تتبرأ من مسؤوليتها كلما وقع اعتداء على المواطنين أثناء فض الاحتجاجات، وهي نفسها التي تلتزم بالحياد حينما تتفرج على البلطجية وهي تعتدي على المواطنين بالعصي والأسلحة البيضاء، وهي نفسها أيضا التي قد تتبرأ من أي سلوك مشين قد يصدر عن أحد أفرادها، كما فعلت مؤخرا حينما تبرأت من مسؤوليتها من التعنيف الذي طال محاميا بمدينة مكناس بالقول إن من قال للمحامي “سِيرْ حَامِي عْلَى مُّوكْ”، ليس شرطيا، رغم أنه كان يتوسط أفراد الشرطة في الشريط الذي بث الحادثة. لا أعتقد أن من يُحمل المسؤولية للدولة في أزمة الريف يقصد هذه الأجهزة التي لا نعرف كيف تشتغل ولا لأي جهة هي تابعة.
فهل المقصود بالدولة المؤسسة العسكرية؟
لا يمكن أن نجزم بأن الدولة هي المؤسسة العسكرية، لاسيما وأننا سمعنا جميعا كيف تبرأت هذه المؤسسة من “مجموعة المارينز” التي ظهرت في شريط تهدد وتتوعد ساكنة الريف دون أن تكلف نفسها عناء إبعاد الشبهة بمتابعة من ظهر على الشريط قضائيا، رغم أن الأمر كاد أن يسبب أزمة دبلوماسية مع السفارة الأمريكية بالرباط.
هل الدولة هي الحكومة؟
تصرح الحكومة باستمرار بأن لا يد لها في حلّ مشكلة الريف، ولا سلطة لها في إطلاق سراح المعتقلين.
هل الدولة هي الملك؟
لقد أشرنا في بداية هذا المقال بأن الملك، كما جاء على لسان الرئيس الفرنسي ماكرون، “قلق مما يحدث بالريف”، لذلك لا يمكن أن يكون مسؤولا عن الاعتقالات التي تطال نشطاء الحراك. وهو الأمر الذي تؤكده تصريحات الناطق الرسمي باسم الحكومة حين يقول إن الملك قد أمر بفتح تحقيق في مزاعم التعنيف التي طالت المعتقلين.
هل الدولة هي الجهاز القضائي؟
لا يمكن للدولة أن تختزل في الجهاز القضائي، إلا إذا كان هذا الجهاز يشتغل ضد إرادة كل من الملك والحكومة والبرلمان والشعب.
هل الدولة هي البلطجية؟
لا نرى في الصور التي تنقلها أشرطة الفيديو لمن يسمون بالبلطجية إلا أفراد بسطاء، معالم البؤس والفقر بادية من ملامح وجوههم الشحباء وملابسهم الرثة. وهم عادة لا يحملون إلا صور الملك والعلم المغربي، وفي بعض الأحيان سكاكين وسيوفا. لا يملكون مؤسسات ولا سجون ولا مروحيات حتى يعتقلوا من خرجوا مطالبين برفع العسكرة وفك العزلة عن الريف.
ماذا يقصد هؤلاء بالدولة إذن؟
لا يسعفنا التصور الحديث للدولة، باعتبارها مبادئ قانونية ومؤسسات مُحْكمة المسؤولية، في التعرف على الدولة في بلدنا العزيز، لأنه لو كان لدينا مثل هذه الدولة لانتهى حراك الريف وانتهت معضلة الريف يوم أُعلن عن “الإنصاف والمصالحة”. لكن لو استعنّا بقليل من الفلسفة سنعرف دون شك ما يقصده المثقفون والحقوقيون بالمغرب حينما يقولون إن ألدولة هي المسؤولة عما يجري في الريف.
الدولة في نظر Locke هي الملكية propriété والملكية في نظر Proudhon هي النهب (la propriété c’est le vol). هكذا يسهل علينا القبض عما يعنيه المفهوم، فنقول إن الدولة هي لوبيات العقار، هي لوبيات الفوسفاط، هي لوبيات الصيد في أعالي البحار، هي لوبيات مناجم الذهب والفضة، هي لوبيات المحروقات، وهي في الأخير اللوبيات التي تحمي اللوبيات.
وإذا كان الاحتكار والفساد والاستبداد هو المنطق الذي يحكم “الدولة اللوبية”، أو الدولة الأولغارشية إذا شئنا أن نستعمل مفهوما مدرسيا، فلا بد لهذه الدولة نفسها أن تصطف مع الحراك حين تعي أن المنطق الذي به تشتغل (الفساد) قد تجاوزها، ولا بد أن تضحي بامتيازاتها قبل أن تضحي بوجودها. تستلزم هذه التضحية وفقا لما يشترطه منطق الحراك، الذي لا يبدو أنه سيتوقف قريبا، تنازلا (أقول تنازلا لأن منطق الحُكْم لا يعرف المبادرة، بل هو دائما يأخذ حين يكون قويا ويتنازل حين يكون ضعيفا) على ثلاث مستويات:
على المستوى السياسي
ـ نظام فيدرالي حقيقي يستوعب الاختلافات الهوياتية الموجودة بالمجتمع.
ـ دستور ديمقراطي تضعه جمعية تأسيسية منتخبة.
ـ قضاء مستقل ونزيه يقوم على مبدأ الانتخاب وليس التعيين.
ـ محاسبة المفسدين وعدم الإفلات من العقاب.
على المستويين الاقتصادي والاجتماعي:
ـ تنمية منطقة الريف وفك العزلة عنها (جامعات، مستشفيات، مصانع وشركات)
ـ السماح للساكنة بالمساهمة في تنمية منطقتها وتدبير شؤونها بنفسها
على المستوى المعنوي:
يُجمع أغلب المحللين على أن الأزمة التي يعرفها الريف حاليا غير مفصولة عن الأزمات التي عرفتها المنطقة في الماضي، زمن المقاومة ضد المستعمر وخلال ما يسمى بأحداث 58، 59 (أو عام إقابَّرَنْ). لذلك إذا كنا نروم مصالحة حقيقية فلا بد من:
ـ استرجاع رفات الأمير عبد الكريم الخطابي
ـ ترميم قصر الأمير بأجدير
ـ إحداث متحف محلي يُعنى بتاريخ المقاومة بالريف وبأبطالها
ـ الكف عن سياسة التعريب ومحو الذاكرة الثقافية للمنطقة، حينما تُمنع الأسماء الأمازيغية أو حينما تُستبدل أسماء المدن والأماكن بأسماء مُعربة (الحسيمة بدل بِيَا على سبيل المثال لا الحصر).
يبقى أن نشير إلى أن ما يعرفه الريف من عزلة وتهميش تعرفه جل مناطق “المغرب غير النافع”، لذلك لا يمكن أن نعالج أسباب الحراك في منطقة ونتجاهل أخرى. لقد آن الأوان ليعرف أهل الحل والعقد أن هذه التنازلات لا بد منها من أجل البقاء والوجود، ومن أجل استمرار الدولة ككيان يوحد الشعب وليس ككيان يستبد بالناس وينهب ثروات بلادهم. وبدونها، قد نلتف على الحراك، قد ننحني للعاصفة، لكن فقط إلى حين..

بقلم: يوسف أقرقاش (أنير)

شاهد أيضاً

الإعلام الأمازيغي المكتوب إلى متى يبقى نضاليا ؟

من الجبهات النضالية التي اخترتها الحركة الأمازيغية بالمغرب منذ النشاة، الإعلام المكتوب وذلك لأهميته في …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *