“أدرغال ن تاﯕوت” قصة مطولة لزهرة ديكر

كتبت للطفل كما كتبت للكبار، فازت بالجائزة السنوية ل “تيرا” رابطة الكتاب بالأمازيغية لسنتين، الأولى سنة 2012 عن قصتها للأطفال “يوفتن غ تاكانت ن ءيسافارن”يوفتن في غابة الأعشاب، و الثانية سنة 2015 عن مجموعتها القصصية للكبار “كيي د نتّات د ءودفّاس” أنت و هي و القميص، و صدرت لها قصة أطفال بعنوان “أزمومك ءيميشكي”الإبتسامة الضائعة،وهي من اصدارات تيرا بشراكة مع وزارة الثقافة سنة 2014 ، في سنة 2016 صدر للكاتبة زهرة ديكر مسرحية تحمل عنوان “وينسن” بالاضافة للقصة التي نحن بصدد التحدث عنها “أدرغال ن تاكوت” أو أعمى الضباب ، و التي يمكن أن نعتبرها أول عمل ابداعي في اللغة الأمازيغية تناول الخيال العلمي، ،  تبدأ أحداث القصة في ءيمي وادّار(منطقة بحرية قريبة من تغازوت)، حيث تعثر   توسمان -ابنة السيدة إيليديا – على جثة عمر -ربيب السيدة ءيليديا- ملقاة على الشاطئ و بجانبه السيد أناروز الغريب عن المنطقة ، و كما يبدو أنه أخرج الجثة من البحر، يختفي أناروز لأيام  ثم يظهر في حالة هذيان و جنون يأكل من الفضلات و يعيش كالحيوان، تهتم به السيدة إيليديا لسبب وحيد “أن يخبرهم بهوية قاتل عمر؟”، يستعيد عافيته قليلا لكن حالة الجنون لم تغادره بشكل نهائي ، السيد “مادغيس” يصبح من نزلاء الفندق-فندق السيدة اليديا- و يتسبب في هروب باقي النزلاء بسبب صراخه الليلي المستمر حتى الفجر، يدفع مالا كثيرا كتعويض للسيدة” إيليديا”  التي تقبل بقائه.

يتوه البطل في ذكريات و أصوات و روائح تقترب منه  و تبتعد هاربة منه  ، كما تفعل تلك الموجات التي يظل يراقبها لساعات طوال، لينقطع عنه ذلك البصيص من الأمل الذي كان يتشبت به، فلا يدرك من يكون غير إسم يحمله مكرها أنير لوفُّوanir le fou ( أنير المجنون) و جسد يدرك جيدا أنه ليس له فلا هو أنير و لا هو بمجنون، يظل يعيش حياته آملا بتذكر ماضيه يوما ما ، و يحدث هذا حين التقائه بالسيد “أدرار” صديق مقرب من السيد “مادغيس” و ينزل في نفس الفندق، يهوى الصيد بمنطقة “تيـﯕرامين” الساحلية و التي يحبها أناروز بدوره بشكل غريب، و يظل ينتقل إليها بشكل يومي رغم بعدها عن ءيمي وادّار بما يقرب 10 كيلوميترات. يحدث أن يصطاد سمكة فيحس بقوة غريبة بين يديه ، ذلك الإحساس الجميل الذي منحته له السمكة التي لا تريد شيئا سوى أن تتحرر من قبضته باحثة عن الحرية و الحياة، نفس احساسه و رغبته المستميتة بالانعتاق و التحرر من جنونه و فقدانه الذاكرة ،  تعود له ذاكرته -بعضا منها- و يمنحه السيد “أدرار” صنارة الصيد كهدية. يعود بذكريات كثيرة أغلبها عن جزيرة “ضارات ن وامان”ما وراء الماء أو البحر.

في هذه القصة تمزج الكاتبة بين الواقع و الخيال العلمي، و بين العلم و سلطة المال و النفوذ ، في إشارة لبعض طلبة العلم و مسيري جزيرة ما وراء الماء الجشعين عديمي الانسانية ، و بين الجشع و الإيثار في إشارة لنوميديا ابنة الدكتور أغيلاس الغنية جدا و التي تساعد الفقراء  خاصة المرضى منهم ، ذات أخلاق عالية ترفض أن تستمتع بما  منحتها الحياة من جاه و غنى ، تحس دائما أن حريتها مقيدة بسبب عملها الاجباري على الجزيرة ، و بين أناروز الخالي من الأحاسيس و الساعي وراء المال و السلطة و النفوذ . يعتقد أناروز أن  نوميديا توفيت بين ذراعيه في السجن، ليدرك بعد ذلك أنها لا تزال حية ترزق فالتي ماتت لم تكن إلا نسخة مماثلة عنها ، بعد أن قررت تجربة جهاز اخترعه والدها– الدكتور أغيلاس –  و ينجح في اعطاء نسخة طبق الأصل عنها مبرمجة على أن تموت بوقت معين .

نوميديا تعاني في صمت، و يبدأ أناروز في  رفض العمل و الاحتجاج على مسيري الجزيرة ، في تلك الأثناء يموت الشقيق الأصغر لأناروز منتحرا ، يشك هذا الأخير و أثناء بحثه يجد أباجورة في غرفة أخيه تطلق  رائحة و  إشعاعات ضوئية  تتسبب للإنسان بهلوسات تؤدي للإنتحار.يقرر أن ينتقم من الجزيرة، فينجح في تجربة جديدة “استنساخ طيور معدلة وراثيا” تحمل أصواتها تلك الذبذبات التي اخترعها سابقا و يطلق على هذه الطيور، اسم “أدرغال ن تاﯕوت” لكونها تشبه الضباب و عيونها سوداء مظلمة فتبدو كأنها عمياء ،   أخفى هذا الخبر عن الجميع حتى عن نوميديا حبيبته.

 تظهر شخصية الدكتور أدرفي ابن منطقة ءيمي وادّار و أحد العلماء المؤسسين للجزيرة ، و الذي انتفظ على مسيريها  و عزل نفسه بعيدا عنهم، و شكل خطرا يهددهم و يهدد مصالحهم، نجح في الاختباء و الاختفاء ، يعلم بكل ما يجري على الجزيرة،   يتدخل و ينقذ أناروز و عمر بعد أن تعرضا للتعذيب و السجن لكن الأوان كان قد فات على عمر المسكين و يموت فور وصوله للشاطئ، تضرر دماغ  أناروز بشكل كبير و أصبح مجنونا  لا يعي شيئا.الجميع ظنوا أن أناروز لم  يطلق تجربته الجديدة لكن حدث العكس ، يتوصل أدرفي بأسطوانة صوتية من طرف أناروز ليكتشف أنها تحتوي على موجات صوتية بالغة الأهمية، و فور تجربتها و دمجها ببعض الموسيقى استطاعت شفاء الملايين من أمراضهم المستعصية ، و كان لا بد لأناروز أن يشفى أيضا، فتخفى أغيلاس في شخصية مادغيس الغني الغريب الأطوار للبقاء بجانب أناروز في الفندق.

يشفى أناروز بعد مضي  بضعة شهور، لكنه كان مراقبا من طرف جزيرة ما وراء البحر، و يقرر أن يستمر في جنونه تجنبا لعيش المزيد من حياة كريهة،  و ضحى بأهله بعد اختار أن يعيش حياة جديدة حياة البعد و الجنون، ما دامت عائلته ستبقى بخير، و الانسانية تعيش في رخاء في انتظار ما تأتي به الأيام .

جل اختراعات العلماء على الجزيرة تتغير في مختبرات أخرى لتكون في صالح طموحات مسيري الجزيرة و أهدافهم المالية بالأساس، ينجح أناروز في صنع دواء  يشفي من مرض السرطان بكل أنواعه مستخلص من سم الأرملة السوداء ، فَيُنتَج  الدواء على شكل حلوى و عطر يعملان على الخلايا  T  المميتة ، تنجح تجربة الدواء بنسبة تفوق الخيال. لكن فيما بعد يتم تغيير هذه التجربة فيتم صنع روائح و عطور  تباع على  أشكال مختلفة حسب الطلب  ، وتباع لأسواق عالمية سرية حيث يتم دمجها مع مواد استهلاكية   وكذا بعض الأدوية، لتكون السبب في إصابة العديدين بأمراض مختلفة مزمنة و مميتة.

تتألف  هذه القصة (خيال علمي)  من ستة  قصص متشابكة و متسلسلة ،متفاوتة الطول تحمل العناوين الآتية 1- أسنسو ن ماسا إيليديا (فندق السيدة إيليديا)

 2- تيـﯕرامين (الصالحات)  – تشير هنا الكاتبة لمنطقة تيـﯕرامين الساحلية التي تقع ما بين تغازوت وأيتامر-

 3- ضارات ن وامان ( ما وراء الماء/البحر)

 4- تادكالت تابركانت (الأرملة السوداء)

5- تافريانت (العصابة) ،

 6- أدرغال ن تاﯕوت (أعمى الضباب)

 7- تاروا  ن تاضينكا(أطفال الموجة).

تتكون كل قصة منها  تقريبا من 5 صفحات. تدور معظم مراحل هذه القصة في منطقة ءيمي وادّار و جزيرة ما وراء البحر، لم تحدد الكاتبة الزمان لكن  أحداثها يمكن أن تشير للحاضر أو المستقبل ،   بطل القصة أناروز الطفل الذي شاهد والده يسجن ظلما و تنهب كل ثروته من طرف قريب لهم – السيد أوسمان- ،عاش أحداثا مؤلمة حيث أصبحوا دون مأوى و لا طعام  مشردين كالكلاب ، لم ينصفهم القانون و لا الناس، فقرر أن يقتدي بالسيد أوسمان ولم لا يكون أفضل منه. حيث فهم ببراءته الطفولية أن الحياة لا تحترم إلا شاكلة ءوسمان. ينجح منذ صغره في الاحتيال على الناس و سلبهم ما يملكون بطرق هو نفسه لا يدري من أين اكتسبها كأنها تأتيه طوعا دون أن يتعب في تعلمها، فيغتني و تتحسن أحواله المادية ، ينجح في دراسته و يصبح من المتفوقين و يسجل في جامعة متخصصة  لتدريس  الموهوبين و العباقرة، هناك يلتقي بالدكتور أغيلاس أستاذ العلوم البيولوجية، فيثني عيله كثيرا و على ذكائه و عبقريته بين الطلاب، في حديث يجمعهما معا، يكشف الأستاذ سر تلميذه القديم اللصوصية و الاحتيال، يستغرب أناروز ليدرك أن اللصوص يعرفون بعضهم البعض فهذا هو التفسير الوحيد ، لتطمئن نفسية أناروز لأستاذه يدخله هذا الأخيرضمن مجموعة أبحاث سرية تضمها جزيرة صناعية- جزيرة ما وراء الماء- التي بنيت على شكل سفينة متحركة يحيط بها حقل مغناطيسي غريب يحجبها عن الجميع .هناك يعيش الشاب عالما جديدا و خياليا أحبه كثيرا ، تعلم لغة جديدة و اكتسب حقلا مغناطيسيا خاصا به يستعمله في جل تنقلاته كما زرعت بيده كحال كل الموجودين على الجزيرة موجة ترددات غريبة، ينجح في  اكتشاف اختراعات مهمة سَرَّ لها مجلس الجزيرة، لم يكن يعلم كيف تستغل أبحاثه و لم يهتم، ففي تلك المرحلة كان همه الوحيد الحصول على المال الوفير. يتعرف على الدكتورة نوميديا –ابنة الدكتور أغيلاس- الفتاة الجميلة و الطيبة عالمة الحشرات (الأنتومولوجيا) فتتغير حياته و نظرته للحياة.

 احترمت الكاتبة مقومات كتابة القصة (الخيال العلمي)، بناء قصصي و حبكة درامية ممتازة ،لغة سليمة، معجم غني بمفردات بسيطة تحمل أفكارا كبيرة، تصوير تسيير و تطور الأحداث بشكل تصاعدي غير ممل، ينطلق من حدث فعقدة و صراع ليتوج بحل خيالي فريد  مفاجئ و غير متوقع ، توضيح معاناة البطل النفسية مع  نفسه ،الناس و المحيط. كل هذا يسير بوتيرة مسترسلة و انسيابية  تحمل ابداعا واضحا في الرؤية و التعبير يدل على قدرة الكاتبة الكبيرة  وتمكنها من العمل الأدبي الذي بين يديها . كما تتخلل القصة لحظات عميقة من الصراع : – صراع داخلي : البطل مع تخبط أحاسيسه و شعوره  و محاولاته اليائسة لتذكر ماضيه ، – صراع خارجي : مع البيئة، المتمثلة هنا أساسا في  أمرين ما قام به السيد ءوسمان   اتجاه عائلة  البطل، و ما يحدث سرا على جزيرة ما وراء الماء/البحر، و نجد رغم مزج القصة بين الواقع و الخيال العلمي، إلا أن القارئ سيجد في أجزائها و تفاصيلها الصغيرة ما يقنعه بامكانية تحقيقها على أرض الواقع أو في المستقبل البعيد، و هذا يمثل مثالا جيدا للصدق في القصة، دون أن ننسى عامل التشويق و الترقب اللذان لعبا دورا مهما في الأحداث ،في الأخير نهاية مناسبة بمفاجئة مقنعة و غير متوقعة للقاريء.

يمكننا تلخيص الفكرة الرئيسية للقصة في :  استغلال البعض النفوذ ،السلطة و المال لمصالحهم الشخصية كسلب الغير ممتلكاتهم -كما حدث في القصة التي بين أيدينا- مما يتسبب في اكتساب الأطفال (خاصة من تعرض أهاليهم لموقف سلبي مماثل )،لشحنة من المشاعر السلبية البغيظة ،  فيكبر الطفل ساخطا على الناس و المجتمع و تكون الطامة الكبرى حين يكون صبي من بين هؤلاء من الموهوبين العباقرة، فتستغل موهبته من طرف بعض الجهات الغير مسؤولة لأغراض دنيئة، حين يستغلون فيه جانب الطمع و الرغبة في بلوغ القمة بأقصى سرعة ،  و هذا ما حدث مع أناروز بطل القصة .

الجميل في هذه القصة كمية الأفكار و المواقف المتتالية التي يتعرض لها البطل، و التي تبني شخصيته و نظرته للحياة بتوالي أحداث القصة وصولا للنهاية، و أيضا تضمن هذا الكتاب مبادئ علمية معروفة مزجتها الكاتبة بأخرى جديدة و خيالية لتضفي على القصة جمالية و روعة ، الجميل أيضا أنها لم تسقط فيما يسمى الخرافة بل قدمت عملا ابداعيا جليا لقصص أدب الخيال العلمي ، لم تشر الكاتبة للزمن بتاتا لكن يمكن أن يفهم من أحداث القصة أنها قد تحدث في الحاضر أو في المستقبل.

لقد مزجت الكاتبة بين الحقيقة  و الخيال العلمي و لم تسقط في الفانتازيا بتاتا فالأدب الذي قدمته مرتبط بالعلم في كل جوانبه فحمل أفكارا علمية محضة ، قريبة من المنطق العلمي ، حيث استندت على فرضيات علمية و بيولوجية  و ألبستها من خيالها الخصب الشيء الكثير، تستمر أحداث القصة حيث تظهر نتائج  بعض النظريات بشكل  تضررت منه البشرية ،مما جعل البطل يشعر بالندم و يحاول اصلاح ما تسبب به عبر اكتشاف ذبذبات صوتية تشفي المرضى و  في الأخير وجد طريقة لمزج هذه الذبذبات بالخريطة الوراثية لطيور مهاجرة هجينة معدلة جينيا ، تُتوج التجربة بالنجاح و تغادر الطيور المهاجرة صوب مناطق أخرى من العالم أكثر دفئا من ءيمي وادّار.

كخلاصة يمكننا القول عن  هذه القصة : عمل إبداعي بديع موجه لكل محب للقصص الخيالية التي تطرح مواضيع انسانية معالجة بطريقة نقد الواقع ،تداخل لحظات من التعقيد و التشابك مما يزيد القصة روعة حيث تتشابك الأزمنة بين الحاضر و الماضي بين الواقع و الخيال بين الجنون و العقل،   صيغته اللغوية سلسة و مطواعة ،موضوعه الأساسي الاستغلال/النفوذ -السلطة/المال – العقل /الجنون، من المواضيع المهمة التي اشتغل عليها الكتاب عبر العصور لكن الطرح في هذه القصة  مختلف بتاتا و مبدع ، المواضيع المعالجة في هذا الكتاب تجعله في متناول فئة مهمة من القراء  خاصة المطلعين على العلوم حيث ذكرت الكاتبة أسماء من قبيل بيولوجيا، خلايا  T مُميتة ، اورنثولوجيا ،ذبذبات صوتية و غيرها من المصطلحات العلمية،  الرائع أيضا في هذا العمل معالجته لعدة قضايا اجتماعية و انسانية ، و كمية الرسائل الهادفة بين فصوله. حقا “أدرغال ن تاكوت” قصة جميلة جدا مزجت بين الخيال و العلم و الحقيقة، قصة تستحق القراءة.

بقلم: محمد ارجدال

شاهد أيضاً

الذاكرة والتاريخ في الأدب الأمازيغي مقاربات نظرية وتطبيقية

تنظم شعبة الدراسات الأمازيغية بالكلية متعددة التخصصات بالناظور ندوة وطنية علمية في موضوع توظيف الذاكرة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *